البترا ...و الدولة الأردنية
محمد رفيع [2007-07-12]
لا يحتاج الأردن اليوم، شعباً ودولة، بقصد تأصيله والمحافظة عليه، وسط ما
يجتاح المنطقة من حرائق، إلى ربطه بأفكار ومفاهيم واهية، لا تصمد أمام أيّ
حوار معرفي جاد.
فالدولة الأردنية، بشكلها الحالي وكما هو، لا تحتاج في شرعيتها إلى البحث
لها عن جذور بعيدة، كي تمارس نديّة سياسية مع مصر أو سورية أو العراق. بل
ولا تحتاج أن تشبه أيّاً منها. فلكل دولة حالية تاريخها وجذورها، ولكل شعب
تاريخه وجذوره، ولكل جغرافيا طبيعتها وتاريخها أيضاً. تاريخ لمستويات
ثلاثة قد يتصل وقد ينفصل.
فلا حاجة اليوم، ثقافياً أو سياسياً، إلى أن نستند إلى إرث دولة الأنباط
أو الولاية العربية البيزنطية أو جند الأردن الإسلامي أو مملكة الكرك
الأيوبية المملوكية ، أو إلى فكرة معمورة حميدية عثمانية خطرت بذهن أحدهم
يوماً، ولم يطبق منها شيء.
ما سبق هو سقوط ساذج في اسئلة الفكر اليومي ، الطامح ان يكون فكراً على
هيئة وجبة يومية سريعة. تماماً كمن يبحث لاستقلال بلاده عن تاريخ، فلا
يجده إلا على حدود خط الهطول المطري 200 ملم سنوياً . أو بين براثن مفردات
الفكر الصهيوني، فيستعير من المتحد اليهودي ، لينتج مفهوم المتحد البدوي
أو المتحد الفلاحي . كلام هو في الأصل محاولات لفظية في اللغة، ما يلبث ان
يسقط بخفته عند أول اختبار. كلام يبحث للأردن الحالي عن استقلال متوهم منذ
بدء الخليقة. فيصير تاريخ اقليم شرقي الأردن جزء من سورية، ولكنه مستقل
عنها ، وهو أيضاً منفتح على الصحراء، ولكنه منفصل عنها ..!!.
تكريس البترا ثاني عجائب الكون شيء، وتوظيف إرثها وارث الانباط الحضاري
والإنساني، للتأسيس سياسياً للدولة الأردنية، شيء آخر تماماً. الأول يدعو
إلى اعتزاز وفخر عربي وأردني. فالأنباط وحضارتهم، وكل آثارهم في الجغرافيا
الأردنية بما فيها البترا، هي ملك للعرب كلهم وليس للأردنيين وحدهم.
وبالوجود السياسي للعرب، حتى هذه اللحظة من تاريخ العالم، يمتدّ المُلك
الحضاري للبترا إلى الانسانية كلها بشكلها الحالي. أما الثاني، فالدولة لا
تحتاجه أولاً، وثانياً من يريد ان يوظف إرثاً حضارياً، بشكل سياسي، عليه
ان ينتج الحد الأدنى من المعارف العلمية عن ما يراد توظيفه. وأُحيل من
يخالفني الرأي إلى مصدرين معرفيين. الأول هو بحث علمي رصين وجاد، نشره
الدكتور الأردني أحمد خيري، في حولية الآثار الأردنية، قبل ثلاثة عقود
ونصف العقد، بعنوان اتجاهات حديثة في دراسة تاريخ الأنباط . فللأسف لا
نعرف، لا نحن ولا العالم، بكل ما تراكم من حفريات وبحوث، عن البترا
والأنباط أكثر من رُبع حضارتهم وتاريخهم ومعارفهم. أما المصدر الثاني، فهو
الكتاب الأول، الذي أصدره بيت الأنباط ، قبل خمس سنوات، بعنوان عهد الحارث
الرابع ، وكتبه مسلم الرواحنة. وفيه نقش يعود إلى أكثر فترات مملكة
الأنباط قوة وحضارة (58ق.م). فعلى وجه النقش (عملة نقدية) صورة للحارث
الثالث راكع بجوار جمل، ويحمل بيده اليمنى جريد النخيل، وفي الأعلى كتب
ماركوس سكاروس ، وفي الأسفل كُتب الحارث ..(!). وعلى الظهر، هناك صورة
للإله جوبيتير إله النصر، يقود عربة خيول، وهي رمز النصر. وهناك نقش آخر
جديد، لفترة لاحقة، لفتاة تمثل بلاد العرب، وتحمل بيدها اليمنى أغصان
البان، وفي الأسفل كتب: إلحاق العرب ..(!!).
أما الولاية العربية البيزنطية ، التي هي فترة احتلال الرومان والبيزنطيين
لبلاد الشام، فهي سياسياً لا تصلح أن تكون أساساً لأي من دول المنطقة.
وكذلك جند الأردن الإسلامي ، الذي هو في الأصل مسار جغرافي، لأحد جيوش
الدعوة، من مركزها في مكة والمدينة، وصولاً إلى أقصى نقطة، في الشمال
وبحره، يمكن طرد الروم منها وعنها. أما التأصيل لأردن اليوم بمملكة الكرك
الأيوبية ، فهو أكثر بؤساً معرفياً، لأنه يستدعي مباشرة تاريخ مملكة الكرك
الصليبية ، السابقة لها، و أرناط ، سيئ الصيت. فتاريخ البلاد والعباد
العلمي ليس انتقائياً، تأخذ منه ما تشاء وتترك منه ما تشاء..! إلا إذا كان
المقصود شيئاً آخر، غير ما تفصح عنه دلالات الكلام المباشر.
التقصير في انتاج المعارف اللازمة، لا يبرر الجنوح إلى الاكثار من الأوصاف
والانشاء، لردم هوة المعارف. ولا يشرّع أيضاً الانزلاق إلى الخفّة، في طرح
اسئلة الاستقلال الوطني والوحدة الوطنية، ومعاركهما المتجددة. فطرح
الاسئلة الحقيقية ومواجهتها، هو أول ما يدفع إليه تكريس البتراء معلماً
حضارياً عجيباً في هذا الكون.
FAFIEH@YAHOO.COM